كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا: ونظير ذلك قوله تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو قد أفلح من زكاها، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال: إن المقسم عليه هو قوله: ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال المعنى: هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، {والقرآن ذِي الذكر} إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري في الكشاف، التقدير {والقرآن ذِي الذكر} إنه لمعجز، وقدره ابن عيطة وغيره فقال: {والقرآن ذِي الذكر} ما الأمر كما يقوله الكفار، إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن: أن جواب القسم محذوف وأن تقديره {والقرآن ذِي الذكر} ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة.
الأول: منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقًا وأن الأمر ليس كما يقول الكفار في قوله تعالى عنهم: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43].
والثاني: أن الإله المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
والثالث: أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] وقوله: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} [التغابن: 7] وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: 3].
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2]، لأن الإضراب بقوله بل، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة: أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإله المعبود واحدًا لا شريك له فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلًا حقًا ففي قوله تعالى هنا: {وعجبوا أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] يعني أي لا وجه للعجب المذكور. لأن يجيء المنذر الكائن منهم.
لا شك في أنه بإرسال من الله حقًا.
وقولهم {هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] إنما ذكره تعالى إنكارًا لهم. فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقًا ولو عجبوا من مجيئك منذرًا لهم، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإله المعبود واحدًا لا شريك له، ففي قوله هنا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، لأن الهمزة في قول: أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الإله المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحًا كقوله تعالى مقسمًا على أن الرسل مرسل حقًا {يس والقرآن الحكيم إنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس 13] فهي توضيح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [البقرة: 252]، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْرًا فالتاليات ذِكْرًا إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات 14] ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله: {أَجَعَلَ الآلهة} [ص: 5] الآية.
وأما كون البعث حقًا، فقد أقسم صحيحًا صريحًا، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]. وقوله تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] أي الساعة. وقوله: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلًا، والبعث حقًا، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد بَلْ عجبوا أَن جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 13] فاتضح بذلك أن المعنى ق والقرآن المجيد، إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرًا رسول منذر لكم من الله حقًا، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإنكار، والاستبعاد، في قوله تعالى عنكم {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] أي ذلك الرجع الذي هو البعث.
رجع بعيد في زعمكم واقع لا محالة وإنه حق لا شك فيه، كما أشار له في قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] إذ المعنى أن ما أكلته الأرض، من لحومهم، ومزقه من أجسامهم، وعظامهم، يعلمه جل وعلا، لا يخفى عليه منه شيء فهو قادر على رده كما كان.
وإحياء تلك الأجساد البالية، والشعور المتمزقة، والعظام النخرة كما قدمنا موضحًا بالآيات القرآنية، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس 51] وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقًا، يستلزم استلزامًا لا شك فيه، أن القرآن العظيم منزل من الله حقًا وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
ولذلك أقسم تعالى، في مواضع كثيرة، على أن القرآن أيضًا منزل من الله كقوله تعالى في أول سورة الدخان {حموالكتاب المبين إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 13] الآية، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف: {حموالكتاب المبين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 14].
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} قد قدمنا الكلام قريبًا على الإضراب ببل في هذه الآية.
وقوله تعالى هنا في عزة أي حمية واستكبار عند قبول الحق، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم، وذلك في قوله تعالى عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد} [البقرة: 206].
والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار: أن من اتصف بذلك كأنه ينزل نفسه منزلة الغالب، القاهر، وإن كان الأمر ليس كذلك، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر، ومنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] الآية، والعرب يقولون: من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يحتشى ** إذ الناس ذاك من عز بزا

وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود: {عزني في الخطاب} أي غلبني: وقهرني في الخصومة.
والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] الآية. وقوله: {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206] الآية، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين، وذلك في قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
ولذلك فسرها علماء التفسير، بأنها هي الحمية والاستكبار، عن قبول الحق.
والشقاق: هي المخالفة، والمعاندة كما قال تعالى: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137] الآية. قال بعض العلماء: وأصله من الشق الذي هو الجانب، لأن المخالف المعاند، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند.
وقال بعض أهل العلم: أصل الشقاق من المشقة لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند.
وقال بعضهم: أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق.
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} كم هنا هي الخبرية، ومعناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم، ومن في قوله: من قرن، مميزة لكم، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة، والمعنى أهلكنا كثيرًا من الأمم السالفة من أجل الكفر، وتكذيب الرسل فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه أهلك كثيرًا من القرون الماضية، يهدد كفار مكة بذلك.
الثانية: إنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك.
الثالثة: أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء، أي فهو وقت لا ملجأ فيه، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته.
وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه.
أما المسألة الأولى: وهي كونه أهلك كثيرًا من الأمم، فقد ذكرها في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] وقوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] الآية. وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} [إبراهيم: 9] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبينًا سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها {لا يعلمها إلا الله} {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9].
وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم، أقوال العلم في قوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] وبينا دلالة القرآن على بعضها، وكقوله تعالى: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 89] وقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} [الفرقان: 37] إلى قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًا ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال وَكُلًا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 3839] وقوله تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14] وقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم.
ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] لأن قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} تهديد عظيم بذلك.
وقوله تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هو: 8283] فقوله: وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم، وفواحشهم المعروفة، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم، كقوله في قوله لوط: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات 137138] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرفان: 40]. وقوله تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35]. وقوله فيهم: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76]. وقوله فيهم وفي قوم شعيب {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما المسألة الثانية: وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء.
أحدهما: نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين، وذلك في قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 11] وقوله تعالى: {قَالُواْ يا ويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 1415] وقوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين} [الأعراف: 45].
الثاني: من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب الذي أحسوا أوائله، كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: 8485] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام، لدلالة قوله: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} الذي هو المسألة الثالة، معناه: ليس الحين الذي نادوا فيه، وهو وقت معاينة العذاب، حين مناص، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه.
فقوله: ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم، فقيل فيها ثمت، وفي رب، فقيل فيها ربت.
وأشهر أقوال النحويين فيها، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة، كالساعة والأوان، وأنها لابد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب، وربما عكس، وهذا قول سيبوية وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
في النكرات أعملت كليس لا ** وقد تلى لات وأن ذا العملا

وما للات في سوى حين عمل ** وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل

والمناص مفعل من النوص، والعرب تقول: ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص.
والمناص والملجأ والمفر والمؤئل معناها واحد، والعرب تقول: استناص إذا طلب المناص، أي السلامة والمفر مما يخافه، ومنه قول حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانة ** بيدي استناص ورام جري المسحل

والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد. لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته، أن يكون صاحبه في كرب وضيق، فيعمل عملًا، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك.
فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك.